سيبدأ الطلاب في مختلف المراحل تأدية الامتحانات قريبا. ويحاول الوالدان تهيئة الأجواء المريحة لأبنائهم لمساعدتهم على التركيز وحسن الأداء في الاختبار. ويجتهد الطلاب لتحقيق نتائج جدية وقد يسهرون حتى ساعات متأخرة وهو يراجعون المواد العلمية لتحقيق نتائج أفضل إيمانا بالمثل الذي يقول من طلب العلا سهر الليالي. ولكن المقصود بالمثل العمل الجاد المتواصل وليس المعنى الحرفي للسهر وقلة النوم ليلة الامتحان. في خضم هذا كله، ينسى الجميع أهمية النوم ودوره في ترسيخ المعلومة المكتسبة وسرعة استرجاعها عند الحاجة إليها.
وسنناقش اليوم بعض الحقائق العلمية حول أهمية النوم للذاكرة ومن ثم التحصيل العلمي والأداء الجيد خلال الامتحانات. فالنوم مهم لعمل توازن للناقلات العصبية داخل المخ المهمة لعمل المخ بصورة جيدة. فهناك نواقل عصبية تزداد خلال اليقظة وارتفاع مستواها وتجمعها خلال اليقظة لفترات طويلة قد يسبب الشعور بالنعاس وضعف التركيز (مثل مادة الأدينوسين). لذلك يحتاج الجسم للنوم حتى تعيد الخلايا العصبية توازنها وتستقر وظائف المخ وتعود النواقل العصبية إلى مستواها الطبيعي. ويعتقد الكثير من الباحثين والتربويين أن نقصان مدة النوم أو اضطراب النوم يؤديان إلى نقص القدرة على التحصيل العلمي والأداء بصورة جيدة. ونقص النوم بدون شك يؤثر على تحصيل الطلاب العلمي وأدائهم في المدرسة وخاصة في المهام التي تحتاج إلى التركيز كالامتحانات. ومن المثبت كذلك أن نقص النوم وبالذات عند الأطفال والمراهقين يقلل من وظائف المخ العليا وقدرته على التعامل مع العمليات المعقدة وعلى حفظ ودمج المعلومات المكتسبة. وتعزى الكثير من الحوادث المهمة التي أصابت البشرية مثل حادثة تشيرنوبيل وغيرها إلى نقص نوم الموظفين العاملين في تلك المشاريع مما قد يكون أدى إلى اتخاذ قرارات خاطئة بسبب نقص التركيز.
وقد ربط العديد من الأبحاث بين نقص ساعات النوم وضعف الأداء الأكاديمي لدى الطلاب، وهناك العديد من الدراسات التي تدعم هذا الاعتقاد. وفقد أظهرت بعض الدراسات أن التحصيل العلمي للطلاب الذين ينامون أقل أو الذين يعانون من اضطرابات النوم مثل الشخير أو مشاكل التنفس أثناء النوم اقل من قرنائهم، وتحسن الأداء الدراسي للطلاب المصابين بالشخير بعد علاجهم. وقد نشرنا دراسة قمنا بإجرائها على عينة من طلاب المدارس الابتدائية في مدينة الرياض مع مجموعة من الباحثين من كلية الطب بجامعة الملك سعود في إحدى المجلات العالمية المتخصصة في طب النوم (Sleep and Hypnosis). وهدفت الدراسة إلى تقييم تأثير اضطرابات النوم وعادات النوم السيئة على أداء الطلاب في الامتحانات وتحصيلهم العلمي. وشملت العينة أكثر من ألف طالب وطالبة من كل مراحل التعليم الابتدائية. وقد أظهرت الدراسة الكثير من النتائج التي قد تفيد الآباء والأمهات وكذلك المربين والمعنيين بالتربية والتعليم. ولتقييم الأداء المدرسي في الدراسة التي قمنا بها تم استخدام التقارير الشهرية التي تصدرها المدارس. وبناء على ذلك قسم الأداء الدراسي للعينة تحت الدراسة إلى ممتاز ومتوسط. فعندما تم تقييم عادات النوم لدى الطلاب حصلنا على نتائج مهمة قد يؤدي تعديلها إلى تحسن الأداء الدراسي للطلاب. فقد وجدنا أن الأداء الدراسي كان أقل عند الطلاب والطالبات الذين عندهم العادات التالية: عدم الانتظام في مواعيد النوم، النوم مع الوالدين في نفس الغرفة، مشاهدة التلفزيون بعد الساعة الثامنة مساء أو حتى حلول موعد النوم، اللعب بألعاب الكمبيوتر بعد الثامنة مساء أو حتى وقت النوم، وكذلك الطلاب الذين ينامون بالفصل. وكانت مدة النوم أطول عند الطلاب الممتازين مقارنة بالطلاب المتوسطين. وفي دراسة حديثة أجريناها على مجموعة من طلاب كلية الطب (410 طلاب وطالبات) ونشرت هذا العام في مجلة
(BMC Medical Education)، أظهرت النتائج أن الطلبة المتفوقين (بناء على السجل الأكاديمي) ناموا لفترة أطول (حوالي 30 دقيقة أكثر يوميا) وذهبوا للنوم في وقت مبكر مقارنة بالطلبة الذين كان أداؤهم الأكاديمي أقل. وهذه النتائج تتوافق مع بعض الدراسات التي أجريت في الدول الغربية فقد أظهرت بعض الدراسات أن مشاهدة التلفاز قبل النوم أو حتى ساعة متأخرة يؤثر على التحصيل العلمي، كما أن وجود جهاز تلفاز في غرفة الطفل قد يؤثر عكسا على تحصيله العلمي. وما سبق قوله ينطبق على ألعاب الكمبيوتر الشائعة بين الأطفال.
أهمية النوم للذاكرة:
أثبتت الأبحاث بصورة غير قابلة للشك أن النوم مهم لذاكرة فعالة. والذاكرة تقسم إلى قسمين رئيسين هما الذاكرة الإجرائية وتتعلق أكثر بتذكر المهارات الحركية التي يتعلمها الشخص وذاكرة تقريرية وتتعلق بتذكر المعلومات والحقائق التي يتعلمها الشخص. والنوم مهم لكلا النوعين من الذاكرة. ويعتقد أن مرحلة الأحلام والتي تزداد عادة في نهاية النوم مهمة للذاكرة الإجرائية، في حين يكون النوم العميق والذي يزداد في النصف الأول من النوم مهما للذاكرة التقريرية. والنظرية الأكثر قبولا أن تتابع وتواصل النوم (Sequential theory) ومرور النائم بجميع مراحل النوم بصورة متتابعة وسلسة مع الحصول على ساعات نوم كاف هو الأمر الأهم لذاكرة قوية.
والأبحاث التجريبية التي اختبرت تأثير النوم على الذاكرة كثيرة وأجريت على الإنسان وكذلك على حيوانات التجارب وسنستعرض بعضا منها.
هناك أبحاث علمية كثيرة تؤكد أهمية النوم في تقوية الذاكرة وخاصة للمعلومات المكتسبة حديثا، فقد أُجري بحث (مجلة نيورن 2009- الخلية العصبية) على حيوانات التجارب لمعرفة التفاعلات التي تحدث على مستوى المخ وتؤثر في الذاكرة المرئية للحيوان كأن يتذكر على سبيل المثال مكان أكله. وقد توصل الباحثون إلى وجود مستقبلات لإنزيم يرمز له بإنزيم NMDA تتحكم في دخول الكالسيوم إلى الخلايا العصبية وتؤثر في الذاكرة. ووجد الباحثون أن حرمان الحيوان من النوم يؤثر على وظائف هذا الإنزيم ويعطل عمله ويؤثر بعد ذلك على الذاكرة.
وفي بحث آخر أجري على 32 متطوعاً، حيث تم تعليمهم مهارة علمية جديدة وعرضت عليهم عدة صور طلب منهم تذكرها لاحقا ثم قُسِّم المتطوعون إلى مجموعتين سمح لمجموعة بالنوم لمدة 8 ساعات أما المجموعة الأخرى فقد حرمت من النوم أو سمح لهم بغفوة قصيرة. وفي اليوم التالي، طُلِب من المتطوعين إعادة المهارة التي تعلموها في اليوم السابق وتذكر الصور التي عرضت عليهم تحت مراقبة وظيفية بأشعة الرنين المغناطيسي. وقد وجد الباحثون أن أداء الذين ناموا 8 ساعات كان أفضل بكثير من الذين حرموا من النوم وهذا انعكس على النشاط في المخ.
ولفهم أكبر لعلاقة النوم بالذاكرة، أجرى باحثون دراسة جديدة (2013) فسَّرت ولأول مرة العلاقة بين النوم الجيد والذاكرة البعيدة. وقد نُشرت الدراسة الحديثة التي قام بها باحثون من جامعة بيركلي في مجلة "نايتشر علوم الأعصاب". فقد درس الباحثون عددا من المتطوعين في سن العشرين ومجوعة أخرى في سن السبعين. حيث عرض عليهم الباحثون 120 كلمة للحفظ قبل النوم، وراقبوا كهرباء المخ خلال النوم. وفي الصباح، طلبوا منهم تذكر الكلمات أثناء مراقبة المخ وظيفيا بواسطة اشعة الرنين المغناطيسي. وأظهرت النتائج أن نقص موجات كهرباء المخ الخاصة بالنوم العميق أثرت على ذاكرة الاسترجاع. وأظهر الرنين المغناطيسي نقصا في وظائف الفص الجبهي من المخ عند كبار السن الذين لم يسترجعوا المعلومات بشكل جيد. وقد أكد الباحثون أهمية الحصول على نسبة كافية من النوم العميق لتحسين الذاكرة البعيدة (الطويلة)، لأن موجات النوم العميق التي تنشأ في الفص الجبهي، تقوم بنقل المعلومات من موقع الذاكرة القصيرة في المخ (منطقة قرن آمون) إلى موقع الذاكرة البعيدة (الفص قبل الجبهي). تظهر هذه النتائج أن النوم العميق اساسي لتخزين المعلومات في مركز حفظ المعلومات البعيدة في المخ. هذه النتائج تشير إلى أهمية الحصول على نسبة كافية من النوم العميق قبل الامتحان لترسيخ المعلومة التي اكتسبها الطالب بالنهار أو قبل النوم.
والنوم أيضا مهم لاستخلاص المعلومات واسترجاعها ولكن تأثير نقص النوم على الذاكرة يختلف من شخص لآخر، فقد أظهر بحث أجراه باحثون من جامعة ولاية متشيغن تأثير النوم على الذاكرة وتم نشر البحث في مجلة علم النفس التجريبي. حيث درس الباحثون تأثير النوم على ذاكرة 250 متطوعا. ووجد الباحثون أن النوم يساعد أغلب الأشخاص -وليس جميع الأشخاص- على استخلاص المعلومات وخزنها في الذاكرة. كما يساعد النوم في زيادة سعة الذاكرة العاملة. ومن المهم هنا ذِكر أن تأثير النوم على الذاكرة يختلف من شخص لآخر، ففي حين يكون التأثير كبيرا عند البعض، يقل هذا التأثير عند آخرين. ولكن كما ذكرنا، فإن النوم مهم لذاكرة فعالة عند أكثر الناس. وقد أوصى الباحثون بضرورة الحصول على نوم كاف وخاصة للطلاب لمساعدتهم على حسن معالجة المعلومات التي يتلقونها وتحسين ذاكرتهم ومن ثم تحسين تعلمهم واسترجاعهم للمعلومة عند الحاجة لها.
النوم والامتحانات:
يعتقد بعض الطلاب أن المراجعة المستمرة للمنهج ليلة الامتحان والسهر للمذاكرة له مردود إيجابي على تحصيل المعلومة. ولكن العكس هو الصحيح، حيث إن قلة النوم ليلة الامتحان كما وضحنا أعلاه تؤثر سلبا على أداء الطالب في الامتحان وتسبب نقصا في التركيز والذاكرة، وبطئا في ردة الفعل وصعوبة في استرجاع المعلومة، واتخاذ القرارات الصحيحة.
لذلك وللحصول بمشيئة الله على نتائج أفضل، ننصح الطلاب بصفة عامة بالاسترخاء قبل موعد نومهم بساعة والذهاب للنوم في وقت مبكر ومحاولة تجنب الغفوات النهارية بقدر الإمكان حتى يتمكنوا من النوم المبكر ليلا. كما ننصح بالنوم في غرفة ذات إضاءة منخفضة وعدم العمل على الكمبيوتر أو ألعاب الفيديو قبل النوم بساعتين وعلى الوالدين محاولة تهيئة الجو المنزلي للطلاب للحصول على نوم هادئ ومريح.