الناسور الشرجي.. قد يتطور تلقائياً حتى بعد المعالجة
!
د.أحمد الزبيدي
يوصف الناسور الشرجي على أنه اتصال مرضي بين القناة الشرجية أو المستقيم والجلد حول الشرج، فهو حالة مرضية شائعة قد تنتج تلقائياً أو تتطور من بعد علاج الخراجات الشرجية الحادة. فعلى الرغم من شيوع هذا المرض الى حد كبير، إلا أننا نفتقر لوجود أرقام تقديرية دقيقة لنسب الإصابة به. يعود ذلك لوجود حالات كثيرة لا يتقدم المريض المتضرر إلى الطبيب شاكياً منها، مما يسبب في عدم وجود سجل وطني أو حتى عالمي دقيق لهذه الحالات. إن من الممكن أن يؤثر هذا المرض سلبا على الحياة اليومية للمريض من خلال ما يسببه من آلام يومية طفيفة، مع وجود حرج اجتماعي في أيسر الحالات، وفي الحالات الشديدة، قد يؤدي إلى صدمة بكتيرية ينتج عنها تسمم دموي بكتيري، بالرغم من أن النواسير الشرجية من الأمراض الحميدة، إلا أنه لا يزال علاج الناسور الشرجي أحد المواضيع الأكثر تحديا وإثارة للجدل في جراحة القولون والمستقيم إلى يومنا هذا.
اسمح لي أخي القارئ أن آخذك في رحلة أُحدثك خلالها عما أعرفه عن هذا المرض المزعج للمريض ولكل طبيب معالج. من الممكن الإصابة بالنواسير الشرجية في أي سن، بينما يبلغ متوسط عمر المرضى عند الإصابة به لأول مرة تسعة وثلاثين عاماً. عندما يصاب أحدنا بخراج حول الشرج والمستقيم – الذي هو السبب الرئيسي لنشوء الناسور -فإن 65% من هؤلاء المرضى سيعانون من تحول هذا الخراج الى ناسور شرجي مزمن أو متكرر. يتسرب الخراج وما فيه من صديد وقيح من خلال فتحة صغيرة خارجية عن طريق الجلد متصلة بتجويف الخراج الذي يتصل بدوره بمنفذ داخلي مستقبلا الفضلات من القناة الشرجية. وهناك بالطبع أسباب اخرى لهذا المرض منها، المضاعفات الناجمة عن الولادة، الاصابات المباشرة للشرج، مضاعفات العمليات الجراحية كالبواسير او الشرخ الشرجي. ترتفع وتيرة نسبة الإصابة بهذا الداء إن كان المريض من الذين يعانون من امراض التهابية مزمنة في الامعاء، مثل الدرن (داء السل) وداء كرون والتهاب القولون التقرحي أو عند من يعانون من أمراض جلدية مزمنة مثل التهاب الغدد العرقية المزمن، عدوى داء الفطر الشعاعي (داء الشعيات). تتضاعف نسبة الإصابة بهذه الظاهرة لدى المصابين بأورام سرطانية شرجية ولديهم مضاعفات ناجمة عن المعالجة بالأشعة الموضعية. وتُفاقم بعض الأمراض الأخرى هذه الظاهرة كالإيدز والسكري.
يلجأ الأطباء في تشخيصهم وتعاملهم مع هذا المرض في معظم الحالات على الاعراض السريرية، وعلى قيامهم ببعض الإجراءات التشخيصية مثل الرنين المغناطيسي والأشعة المقطعية بشكل رئيسي عند توفرها حيث إنها الأفضل والأكثر دقة من الفحوصات الأخرى كتصوير الناسور السيني وفحصه بالأمواج فوق الصوتية عبر المستقيم. تقوم هذه الفحوصات بتصنيف الناسور ووصف وضعه بالنسبة للعضلة الشرجية القابضة حسب التصنيف العالمي المتعارف عليه والمسمى بتصنيف بارك. يعتمد هذا الأسلوب تصنيفاً بسيطاً كليا يعتمد على موقع الناسور. حيث يقسم الناسور الى إما ناسور منخفض، حيث من اسمه يلتف حول الثلث الأخير (السفلي) من العضلة العاصرة إما الداخلية أو الخارجية أو بهما معاً. وذلك على عكس، الناسور الغائر أو العالي والذي ينطوي على أكثر من الثلث السفلي من المصرة الشرجية. وهذا التقسيم يسهل الأمر على المريض فهم المخاطر والمضاعفات المحتملة مع علاج الناسور خاصة العالي منها والذي يحمل في طياته أن علاجها أكثر صعوبة وأكثر احتمالية إصابة المريض بضعف التحكم الشرجي والسلس البرازي لا قدر الله. هناك طريقة أخرى لتصنيف النواسير الشرجية وهي إما بسيطة أو معقدة (أي متفرعة) وهي طريقة تأخذ في الاعتبار أيضا العوامل الأخرى التي تؤثر على قوة العضلة وبالتالي قوة التحكم بالغائط. فطريقة بسيطة مقابل معقدة تأخذ في عين الاعتبار كل من موقع الناسور وغيرها من العوامل: مثلا، النواسير التي تعتبر معقدة تشمل النواسير الأمامية لدى السيدات وذلك لضعف العضلة من الأمام لديهن، تلك التي تصاحبها أمراض مزمنة كمرض كرون وداء السل على سبيل المثال، أو عند أخذ المريض لعلاج إشعاعي، أو خضوعه لعمليات استئصال أورام، وغيرها، أو إشراك الأجهزة الأخرى في الناسور (على سبيل المثال، المهبل، قاعدة كيس الصفن، والمثانة البولية).
يعود تاريخ علاج الناسور الشرجي الطويل لأكثر من 2000 سنة. منذ ما قبل عهد أبقراط أبو الطب في عصره (العهد اليوناني) في القرن الرابع قبل الميلاد. ولن أستغرب إذا ما ذُكر لي أن أول من عالج الناسور المعقد بالخيط الشرجي القاطع كان أبقراط، لعظم شأنه في علم الطب ذاك الزمان. تنبه الأطباء لما يحدث للمريض من مشاكل في الإخراج وإصابة مرضاهم بالسلس البرازي في القرن السابع الميلادي. ولم يبتكر أحدهم أي علاج جديد حتى القرن العاشر الميلادي حيث خرج من أرض الأندلس الطيبة بعد أن منّ الله على طبيبها العربي المسلم أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي ((936-1013) المتوفي عام 427ه) -رحمه الله رحمةً واسعه وجزاه الله عني وعن كل طبيب عالج إنساناً فأحسن علاجه -والذي أدخل عملية بضع الناسور لقائمة العمليات المستحدثة في ذلك الزمان فهو يعتبر أعظم جراحي العصور الوسطى الذي خرج من رحم العالم الإسلامي ويكنى بأبي الجراحة الحديثة. في القرن السادس عشر، أعاد الطبيب الفرنسي أمبرواز باري طريقة ابقراط في التعامل مع النواسير الشرجية ولكن باستخدام شعر الخيل لتقسيم العضلات العاصرة الداخلية وعلاج الناسور والتخلص منه بهذه الطريقة. وعلى الرغم من أن الأدوات اللازمة لعلاج النواسير الشرجية قد تغيرت على مر القرون، إلا أن كثيراً من التقنيات المذكورة آنفا التي تم تطويرها في العصور القديمة لا تزال تستخدم في يومنا هذا. طور علماء وأطباء القرن المنصرم في بدايته مادة صمغية تسمى غراء الفايبرن واستخدموها في حقن مجرى وقناة الناسور بعد زوال كل الالتهابات به. سُجل وقتها نسب نجاح متفائلة وصلت إلى 70% إلا أن الأمل اختفى سريعاً وأدار الأطباء ظهورهم لهذه الطريقة بعدما كثرة تقارير الدراسات المختلفة من مختلف أنحاء العالم والتي تدل على تدني مستويات النجاح الى أقل من 33% وارتفاع معدلات عودة الناسور إلى أكثر من 60%. في بداية الألفية الثالثة (عام 2005) كنت في ورشة عمل في مدينة كالجري الكندية أثناء تدربي في برنامج زمالة جراحة القولون والمستقيم وكانت عن علاج الناسور بمادة مخروطية الشكل تستعمل كسدادة تسد بها قناة الناسور وتعمل بشكل جيد دون التأثير على حركية الشرج ودون التأثير على قوة تحكم المريض. وعلمت أن لها نسب نجاح متفاوتة تتأرجح بين 24 و95% وهذا فرق شاسع. كما علمت أنها مصنوعة من أمعاء الخنزير أجلكم الله. لم أحب التعامل مع مثل هذه المادة لحرجية الموقف الشرعي في ذلك فقررت استبعادها من خيارات العلاج التي أعرضها على المريض. وعندما عدت من البعثة وبدأت مزاولة مهام عملي قابلني مريض ذات يوم -خضع لدرزن (12 عملية) عمليات شرجية لاستئصال الناسور دونما نتيجة. فلم أجد له حلاً أفضل من هذه المادة والتي قمت انا والمريض جزاه الله خيراً بالذهاب للشيخ عبد الله بن جبرين والذي أفتى لنا بجواز استخدامها في مثل هذه الحالات الصعبة – رحم الله الشيخ وجزاه الله عن كل نفس وكل إنسان تعالج بمثل هذه المادة وشفاه الله من هذا الداء.
وفي الأونة الأخير، بدأ الباحثون بالتحقيق في إمكانية علاج الناسور بالخلايا الجذعية المشتقة من الخلايا الدهنية والتي تحقن مباشرة في قناة الناسور. تشير التقارير الأولية أن نسب تماثل المريض للشفاء تصل الى 30٪، ولكن هذه التقنية لا تزال في مهدها وتحتاج الى وقت من الزمان حتى نتثبت من نتائجها ومن ثَم نحكم عليها.
خلاصة الكلام يا أعزاء يا كرام هو أن الأهداف الأساسية لعلاج الناسور تتلخص في التخلص من النتن البكتيري الموضعي المصاحب له، والقضاء على قناة الناسور، والتقليل من احتمالية حدوث السلس البرازي. لتحقيق هذا الهدف، تبرز أهمية وجود منهجية في عمل الفحوصات اللازمة، بدءا ببساطة من فحص المستقيم بالإصبع إلى استخدام التكنولوجية التقنية المتقدمة التي تساعد على معرفة مسار الناسور، مثل التصوير المقطعي والتصوير بالرنين المغناطيسي، والتي تلعب دوراً رئيسياً مؤثراً في نتائج العلاج. هناك مجموعة كبيرة من خيارات العلاج تحت تصرف الجراحين، بما في ذلك الخيط الشرجي الجراحي المصمم للحفاظ على الجرح مفتوحا، وبالتالي السماح للناسور بتصريف القيح المتجمع به دون زيادة معاناة المريض، وحقن قناة الناسور بفراء مادة اللفين أو سده بحشوة حيوانية وغيره من طرق العلاج.
الخيط الشرجي الناسوري
السدادة الناسورية