تشكل حالات الاستفراغ أو القيء أو الترجيع علامة سريرية شائعة الحدوث في مختلف المراحل من نمو الطفل، وهي وإن كانت ذات علاقة مباشرة وأساسية بالتغذية، كماً ونوعاً، فإنها تعبر في بعض الحالات عن خلل وظيفي أو خطأ تقني بالتغذية لا يمت بأية صلة إلى مرض أو عاهة محددة؛ بينما في كثير من الظروف يكون الاستفراغ نذير مرض حاد يتطلب المعالجة الطبية الفورية أو التدخل الجراحي السريع، أو ربما هو بداية لمرض مزمن يستوجب المتابعة المنتظمة والمراقبة تحت الإشراف الطبي، لتفادي حصول تطورات غير سارة، أو تداعيات تضر بصحة الطفل، سيان أكان السبب مرتبطاً مباشرة بالجهاز الهضمي (الفم، المريء، المعدة ، الأمعاء) أو بتوابعه (الكبد، المرارة، مجاري الصفراء، البنكرياس..) أو أن الاستفراغ ينم عن تطور مرض حاد بعيد كل البعد عن هذا الجهاز (الدماغ، الرئتان، داء السكري في مخالطاته، أمراض استقلابية (Metabolism)).
بعض الأسباب البسيطة المسببة للتقيؤ، خصوصاً الذين يعتمدون على التغذية الصناعية
• يتطلب احترام الكمية اللازمة من بودرة الحليب وتذويبها مع كمية الماء المطلوبة كي لا يحصل أي خطأ في المزج (زيادة أو نقصاناً)، ما يسبب عاملاً أساسياً للاستفراغ؛ كما يجب الانتباه إلى فتحة الرضاعة بألا تكون واسعة أكثر من اللزوم، ما يؤدي إلى ابتلاع كمية زائدة من الهواء خلال المص، وازدياد كميته في الجيب الهوائي للمعدة، مشكلاً في هكذا حالة ضغطاً على الحجاب الحاجز (Diaphragm) هو (عضلة تشكل حاجزاً بين الصدر والبطن) ما يدفع بالحليب صعوداً نحو المريء.
• ومن الحالات البسيطة، نذكر كذلك الوضع النفسي لبعض الأمهات اللواتي يركزن على أن يكتسب أطفالهن الوزن بسرعة فائقة، ليوازوا بذلك وزن أطفال جاراتهن، فيعمدن إلى زيادة كمية الحليب لأطفالهن، بشكل ملفت للنظر، وفوق طاقة استيعاب المعدة، ما يؤدي إلى الاستفراغ. بالمقابل نجد بين الأطفال من هم يأكلون بنهم، يرضعون فوق حاجتهم، ليطرحوا من ثم الكمية الزائدة من الحليب على شكل استفراغ؛ وما يطمئن إلى الوضع الصحي لهؤلاء الأطفال هو الوزن الدوري خلال الزيارة للطبيب، حيث يستنتج الأخير الزيادة الطبيعية لنمو الطفل أو الزيادة الفائضة في بعض الحالات، وخارج نطاق أي حالة مرضية.
• ومن الأسباب العادية للاستفراغ، بعض الأطعمة التي تدخل في غذاء الأم التي ترضع طفلها، أطعمة تحدث طعماً غريباً أو غير مقبول من الرضيع منها (القرنبيط، الملفوف، الحر، البصل، الثوم….). فللرضيع ذوقه الخاص! هو يستطيب أشياء ويمقت أشياء أخرى شأنه في ذلك شأن أي إنسان آخر، فهو يرتاح للنكهات الطيبة واللذيذة ويتقزز من الأطعمة النافرة (عند بدء التغذية بالملعقة) ما يحدث عنده الاستفراغ؛ نراه يبتسم للطعم الحلو أو المالح، «يكشر» للطعم الحامض، ويبكي عند تذوق الطعم المر!.
• عند الأم المرضعة وفي حال إصابة الثدي بأي التهاب، دُمل الثدي مثلاً أو تشقق الحلمة لإصابتها بتقرحات أو فطريات أو التشوه في تكوينها، كل ذلك يؤدي إلى حالات استفراغ عند الطفل.
الأسباب المرضية الأكثر جدية والأشد خطورة على صحتهم
1. يأتي في مقدمة الأسباب الجدية للاستفراغ، ما هو ذو علاقة بخلل تكويني في الجهاز الهضمي عند الأطفال وحيث تبدأ العلامات المرضية، ممثلة بالاستفراغ، في سن مبكرة (الأسابيع الأولى) نذكر منها ارتداد الحليب من المعدة إلى المريء (Gastroesophageal reflux disease) ليرتد بعدها نزولاً، وفي أغلب الأحيان نحو القصبة الهوائية ما يؤدي إلى نوبات حادة من السعال، وعلامات تحسس في القصبة، ناتج عن ردة فعل الأغشية للقصبة الهوائية تجاه «بروتين» الحليب، على شكل ربو. من هنا التركيز على عدم تأخر التشخيص للسبب الرئيس ألا وهو الاستفراغ وليس السعال وما يتبعه من ضيق في التنفس؛ مما يستوجب المعالجة المبكرة لهذا الخلل التكويني في المعدة (العلاج طبي وليس جراحياً في معظم الحالات).
ومن الإصابات التكوينية للمعدة، نذكر كذلك حالة انطواء المعدة (Gastric Plication) ما يؤدي إلى الاستفراغ المتكرر بعد كل وجبة طعام، في الأسابيع والأشهر الأولى من عمر الرضيع لتشكل سبباً للتأخر في النمو؛ وهذا ما يجري كذلك في حالات ضيق بواب المعدة (Pyloric stenosis) حيث تبدأ حالات الاستفراغ اليومية والمتكررة بدءاً من الأسبوع الثالث أو الرابع من عمر الطفل، وعند المولود الذكر في أغلب الحالات، أكانت التغذية من الثدي أو بالقنينة، ما يؤدي إلى النقص الحاد في النمو لدى الطفل (ركود الوزن والطول وحجم الدماغ) وتداعياته على الوضع العام لصحة الطفل (التنفس، القلب، تجفاف مزمن مع علامات بيولوجية…) يترافق كل ذلك مع علامة مرضية مهمة في هذا العمر وهو الإمساك الحاد، نظراً لعدم مرور الغذاء عبر الأمعاء، ما يستدعي التشخيص الباكر لهذا الخلل في المعدة وعدم الوصول إلى هذه المرحلة المتقدمة وخطرها على صحة الطفل؛ ويعتمد هذا التشخيص على العلامات السريرية أولاً ومن ثم الاستعانة بالصورة الشعاعية للمعدة أو الفحص من خلال الصورة الصوتية أو المنظار.
2. أما الأسباب الأكثر شيوعاً للاستفراغ عند الأطفال: نذكر منها الالتهابات والإنتانات في المعدة والأمعاء، في أشكالها الحادة أو المزمنة (التهاب المعدة والأمعاء Gastroenteritis)، وحالات التسمم الغذائي (Food poisoning) التي تسجل خلال الصيف خاصة؛ إلى التهابات المصران الغليظ (colitis)؛ كما أن الاستفراغ يرافق الأمراض التي تصيب الغدد أو الأعضاء التابعة للجهاز الهضمي، نذكر منها:
التهاب الكبد الوبائي (hepatitis A)؛ التهاب أو إصابة المرارة؛ إلى جانب المجاري الصفراوية (التهاب المرارة cholecystitis)؛ أو إصابة البنكرياس (التهاب البنكرياس pancreatitis)، عندما نعلم أن هذه الغدة في قسمها التابع للجهاز الهضمي تفرز الخمائر (Enzymes) التي تساعد عمليات الهضم (الدهنيات خصوصاً، اما القسم الآخر للبنكرياس فهو يفرز هورمون «الأنسولين» الذي يلعب الدور الأساس في عمليات السكر (الغليغوز).
3. الاستفراغ علامة مرضية ترافق، تلي أو تسبق الكثير من الأمراض الموسمية والانتقالية، أكانت فيروسية أم بكتيرية: نبدأ بالإصابات الموضعية في الفم واللسان (التهاب الفم stomatitis). الإنتانات التي تتمركز في دائرة الأنف والأذن والحنجرة (E.N.T)، منها الحمى القرمزية أو الحميرة (Scarlet fever) والخناق (angina) والالتهابات الأنفية البلعومية (nasopharyngitis)، التهاب الحنجرة (laryngitis)، والاستفراغ الذي يرافق التهاب الأذن الوسطى الحاد (acute otitis media) في بعض الحالات؛ إلى التهاب الرئة الحاد (acute pneumonia)، «وذات الجنب» أي التهاب غشاء الرئة (pleuritis).
على مستوى القصبة الهوائية، نذكر أولاً حالات السعال الحاد والناشف والذي يترافق مع استفراغ هام وفي رأس القائمة يأتي مرض الشاهوق أو السعال الديكي (Whooping cough)، وهو مرض له تاريخ أسود لدى أطفال العقود الماضية؛ وقد خفت نسبة إصاباته بشكل ملحوظ حالياً، حتى كأنه اندثر لدى الأطفال، بعد حملات التلقيح الجماعية وتحسن نوعية اللقاح وغياب عوارضه الجانبية.
هذا إلى جانب حالات الاستفراغ المواكبة لمرضى الربو (asthma) والالتهابات الحادة للقصبة الهوائية وتشعباتها (Bronchitis & bronchiolitis). يعود سبب الاستفراغ في هذه الحالات إلى ردة فعل إرتكاسية (Reflex) نتيجة الضغط الميكانيكي الذي يحدثه السعال.
4. من إصابات الدماغ والجهاز العصبي المركزي ويمثل الاستفراغ فيها علامة سريرية هامة غالباً وبالغة الخطورة أحيانا نذكر منها:
• التهاب غشاء الدماغ أو السحايا (meningitis)، حيث يشكل الاستفراغ، إلى جانب علامات عصبية، إحدى دعائم التشخيص للمرض، وقد خفت نسبة الإصابات بهذا الداء وبشكل ملحوظ، في السنوات العشر الأخيرة؛ خصوصاً بشكلها البكتيري الذي تسببه جرثومة «مستدمية الأنفلونزا أو المستديمة النزلية Haemophilus influenzae بعدما وضع قيد التداول اللقاح النوعي المضاد وبطريقة منتظمة في روزنامة تلقيح الأطفال وباكراً بدءاً من عمر الشهرين.
• من إصابات الدماغ المصحوبة بالاستفراغ نذكر كذلك، التهابات الدماغ (encephalitis)، حالات ارتفاع ضغط السائل المخي الدماغي (cerebrospinal fluid) والتي تنم عن حالات أورام في الدماغ (brain tumor) أكانت خبيثة أم حميدة، وكذلك في حالات استسقاء الدماغ (hydrocephalus).
• الاستفراغ الناتج عن رضات، صدمات أو جروح تتعرض لها جمجمة الرأس؛ هي علامة تجب مراقبتها في كل الأحوال التي يتعرض فيها الأطفال لهذا النوع من الحوادث، وهي في ازدياد مستمر نظراً لكثرة حوادث السير والتنقلات، ما يستوجب إجراء صُور شعاعية أو تصوير طبقي للدماغ ومراقبة المريض في المستشفى في الحالات التي تتطلب ذلك.
5. ومن الإصابات الجراحية، الأكثر حدوثاً عند الأطفال والأولاد، والتي تترافق مع حالات استفراغ متكررة ومعبرة عن التشخيص في كثير من الظروف؛ نذكر ثلاثاً منها:
• أولها وأهمها التهاب الزائدة الدودية (appendicitis).
• تداخل الأمعاء بعضها ببعض، ما يؤدي إلى الانغلاف المعوي Intussusception الذي يشكل وحدة سريرية معبره، واضحة للطبيب، مع حالة استفراغ مهمة تحدث بعد نوبة الم حاد في الأمعاء ونزف دموي صاف من خلال شرج الطفل.
• الاستفراغ الذي يرافق حالة الفتق الإربي المخنوق (Strangulated Inguinal hernia) والذي يستوجب القيام برتق الفتق قبل الوصول إلى هذه المرحلة المزعجة والخطيرة على حياة الطفل في آن.
6. من الأمراض الاستقلابية (Metabolic Disorders) المؤدية إلى حالات استفراغ، نذكر الاستفراغ الدوري (Cyclic vomiting)، عند الأطفال والأولاد في عمر معين؛ ناهيك عن داء السكري ومخالطاته ومنها الاستفراغ وصولاً إلى حالة فقدان الوعي (coma)، مع ارتفاع نسبة الحموضة في الدم (Acidosis)، إلى الاصابات الأيضية الأخرى الناتجة عن خلل في الغدد الصماء والتي يصاحبها استفراغ: كاضطراب الغدة الكظرية (adrenal cortex) بخاصة، وتغيرات نسب الهرمونات التي تفرزها، ومفاعيلها على الأملاح المعدنية (خصوصاً الصوديوم والبوتاسيوم). نذكر كذلك تقلبات مستوى الكالسيوم في الدم وترافقها مع حالات استفراغ أيضاً.
تبقى حالات نادرة من الإصابات، في مختلف أنحاء الجسم، تترافق مع أو يتبعها استفراغ.