عند البحث في أسباب الإسهالات الحادة، والبكتيرية منها بخاصة عند الأطفال والأولاد، لا بد من التوقف قليلاً عند الوضع البيئي العالمي، والذي يسترعي اهتمام معظم الدول المتطورة علمياً وصحياً، هذا إلى جانب المنظمات الصحية العالمية (منظمة الصحة العالمية، منظمة الأمم المتحدة للعناية بالأطفال) التي تعمل على الحد من انتشار الأوبئة عبر العالم.
نلتزم هنا بموضوع تلوث المياه، أكانت مياه الشرب أو مياه الاستعمال المنزلي، لنستنتج أنه في عصرنا الحاضر هناك مليار ومائتا مليون شخص في العالم (والعدد في ازدياد مع مرور الزمن) غير قادرين على استعمال مياه الشفة، وملياران وأربعمائة مليون محرومون من الإنشاءات الصحية الضرورية (مراحيض، دورات مياه، صرف صحي، بنى تحتية…).
من هنا يتبين لنا المعاناة الصحية الناتجة من هذا النقص الحاد في المياه وتردي قواعد النظافة العامة، وخصوصاً في البلاد التي هي في طور النمو، وحيث زيادة عدد سكانها في اطراد مستمر. وقد أدت الأمراض المسببة للإسهالات والعائدة في معظمها إلى شح المياه وتلوثها، إلى وفاة أطفال خلال القرن الماضي تجاوز عددهم عدد الأشخاص الذين قتلوا في النزاعات المسلحة منذ الحرب العالمية الثانية؛ وهي أمراض تتسبب بوفاة أكثر من ستة آلاف طفل يومياً نتيجة نقص المياه أو تلوثها.
وإذا ما أطلعنا على نسبة الحصول على الماء بين بلد وآخر، لاستنتجنا الهوة الكبيرة في هذا المجال، حيث أن المواطن الكندي مثلاً يحصل على سبعمائة ليتر من المياه يومياً، بينما لا يتعدى نصيب المواطن الأفريقي ثلاثين ليتراً في اليوم، ما يترك أثره إيجاباً وسلباً في كلتا الحالتين، لا سيما إذا عرفنا أن الحد الأدنى الواجب تأمينه للشخص الواحد هو خمسون ليتراً من المياه يومياً، لتغطية حاجات الشرب والنظافة والغسل وطهو الطعام. وترتفع هذه الكمية إلى مائة ليتر يومياً، إذا أضفنا إليها مستلزمات الزراعة والري.
الإسهال وطريقة العدوى
يعرف الإسهال بتكرار مرات التبرز، الحاوية على كمية زائدة عن المألوف، من الماء والأملاح المعدنية والتي يخسرها جسم الإنسان، إلى تغيرات نوعية البراز ومحتوياته (نتف من غشاء الأمعاء، مادة مخاطية، قيح، دم…).
والإسهال علامة مرضية سريعة الانتشار وبخاصة في فصل الصيف، نظراً لقضاء فترات متكررة في أحضان الطبيعة، وتلوث المياه في الأماكن التي يرتادها الناس في هذا الفصل (السباحة في البحر، ضفاف الأنهار، البحيرات..)، والتنزه في أماكن تشح فيها المياه فتقل النظافة ويتم انتقال العدوى إلى الأطعمة عن الطريق البرازي الفموي، وحيث الأصحاء الذين يتمتعون بدفاع مناعي قوي يقيهم من الإصابة بالجرثومة، خصوصاً إلى الأطفال الذين هم في طور بناء جهازهم المناعي أي تحت عمر السنتين.
ومهما يكن مصدر العدوى، يشكل الإسهال الحاد خطراً داهماً على صحة الطفل لما يحدثه من تجفاف حاد (نشفان)، لاسيما إذا صاحبته حالات استفراغ متكررة.
وتمثل هذه الإسهالات أحد الأسباب الرئيسة للمرض أو الوفاة لدى الأطفال في العالم، حيث يسجل نحو مليار إصابة سنوياً وحوالي خمسة ملايين حالة وفاة (حسب معلومات منظمة الصحة العالمية).
أهم الجراثيم البكتيرية وغيرها المسببة للإسهال
تعود أسباب الإسهالات البكتيرية الحادة إلى إصابة الأمعاء بأنواع عدة من البكتيريا المعوية (Enterobacteriaceae) والتي يمكن تصنيفها إلى فصيلتين:
• الأولى تتمثل بأصناف البكتيريا التي تتمركز في الأمعاء وتفرز نوعاً من السم، وتنتمي هذه إلى فصيلة «الباسيل»، أو العصيات، ومنها جرثومة إيكولاي (E.coli) (وقد أخذت شهرة عالمية في الفترة الأخيرة بعدما سجلت إصابات قاتلة بإحدى فصائل هذه الجرثومة في ألمانيا وأسبانيا وإيطاليا وغيرها من دول السوق الأوروبية المشتركة). وهذه الفصيلة كثيرة الوجود في بلادنا (لكنها تسبب إصابات في المجاري البولية أكثر من التمركز في الأمعاء).
• ومن البكتيريا التي تحدث حالات إسهال حاد ومفاجئ الكوليرا (Cholera) التي أدت إلى أوبئة قاتلة فيما مضى، وخصوصاً في مواسم الحج، وهي تضرب حاليا في عدد من بلدان أفريقيا وأميركا الجنوبية.
• يضاف إلى هذه الفصيلة بعض الأنماط من السلمونيلات (Salmonella)، والعقدية السبحية (Staphylococcus)، وعصية شيغيلا (Shigella)… وغيرها.
• أما الفصيلة الثانية من البكتيريا فتتميز بمهاجمة غشاء الأمعاء مباشرة، وهي كثيرة نذكر منها جرثومة التيفوئيد وغيرها من أنماط السلمونيلا (A ، B ، C…)، والبكتيريا العقدية، والبكتيريا الملتوية Campylobacter.
• ومن الطفيليات نذكر النوعية الأكثر انتشاراً وهي طفيلية entamoeba.
نختصر البحث في الإسهالات الحادة بإيراد حالتين: الأولى نتيجة الإصابة ببكتيريا شيغيلا، والثانية الإصابة بالطفيلية الأميبية (Amoebiasis)، وكلاهما يؤدي إلى زحار حاد (acute dysentery)، الأول يعرف بالزحار العصوي والثاني بالزحار الأميبي أو الطفيلي.
الإسهال البكتيري الحاد Bacillary dysentery العائد إلى عصية شيغلا Shigellosis
تحوي هذه البكتيريا على عدة فصائل (a، b، c…)، نادرة الحدوث في فرنسا قبل سن ثلاثة شهور، بينما هي أكثر حصولاً في أفريقيا، أوروبا الشرقية وبلدان الشرق الأوسط. وتحصل العدوى مباشرة (عن طريق الماء، الغذاء والألعاب)، ويكون المدخل دوماً بواسطة الفم. تدوم الحضانة للجرثومة من 6 إلى 12 ساعة، ويبقى الطفل معدياً طالما بقيت الجرثومة في برازه.
يتطور المرض على شكل وباء أو إصابات محدودة وتدوم مدة المناعة بعدها من سنتين إلى ثلاث سنوات.
أما علامات الإصابة فتبدأ على شكل أوجاع حادة في البطن، استفراغ متكرر وحمى عالية (40 درجة)، يمكن أن تصاحبها حالات تشنج عصبية لدى الأطفال؛ يلي ذلك الإسهال الحاد مباشرة حيث تبدو ظاهرة الزحار واضحة: نوبات ألم باطني تؤدي إلى رغبة ملحة للذهاب إلى التبرز مع الشعور بألم حاد مبرح في الشرج، مع تعدد مرات التبرز الحاوية على نتف من غشاء الأمعاء والقيح والدم، مما يشكل حالة سريرية متكاملة، تشمل حالة تسمم إنتاني متغيرة الحدة مؤلفة من: حمى عالية مع هبوط في الضغط الشرياني وتسرع في وتيرة دقات القلب وتجفاف حاد، مع ازدياد نسبة الحموضة في الدم وما لها من تداعيات على وظائف التنفس والقلب والدماغ.
وفي حالات أخرى أقل حدة، ينحصر الشكل السريري على إسهال حاد عادي مع وجود، في بعض الأحيان، سائل مخاطي غشائي في البراز مع بعض «الخيوط» الرفيعة من الدم، وفي هذه الحال وحده الزرع المخبري للبراز يؤكد الإصابة النوعية.
الإسهال الطفيلي أو الأميبي الحاد Amoebic dysentery
يصيب هذا الشكل السريري من المرض حوالي 10 % من سكان العالم، بينما 90 % من المصابين ليس لديهم علامات مرض، ما عدا نسبة عالية منهم يشكون من الإسهال البسيط، أما القسم الآخر فيعاني علامات المرض على شكل أوجاع أمعاء حادة وإسهال سائلي يحتوي على دم، وباستطاعته أن يؤدي إلى تقرحات أو تكوين دُمل في المصران.
وفي بعض الحالات يمكن للطفيلية أن تغزو أعضاء أخرى، وبخاصة الكبد حيث تظهر الأعراض المرضية على شكل ترفع حروري متغير مع قلة شهية للطعام من دون إصابة الأمعاء، تتم العدوى بواسطة كيس الطفيلية الذي ينتقل من خلال المياه الملوثة أو تناول الخضار النيئة الملوثة بالبراز، أو عدوى الأيدي بالغائط لدى الذين يحضرون الأطعمة.
يتم التشخيص من خلال فحص مخبري، وتدوم هذه الأكياس حية في البيئة الخارجية لفترة تتراوح بين 9 و20 يوماً، وخصوصاً عندما نعلم أن هذه الأكياس تقاوم المواد المعقمة (كلور مثلاً).
وتبقى فئات خاصة من الناس معرضة للإصابة بهذا الشكل الطفيلي، لاسيما لدى ضعيفي البنية أو مثبطي المناعة أو النساء الحوامل، وهم الأكثر عرضة لمضاعفات خطيرة.
سبل الوقاية
• للوقاية من الإسهال الحاد وحالات الجفاف عند الأطفال، يتوجب أولاً المحافظة على قواعد النظافة العامة (الأيدي، الأظفار، الشعر…).
• مراقبة شبكة إمداد المياه التي تغذي المنازل وبيوت النقاهة والمدارس، والعمل على تعقيم مياه الشرب.
• التركيز على غسل اليدين جيداً بالماء والصابون قبل تحضير وجبات الطعام أو تناوله، وبعد العودة من المرحاض وبعد تغيير حفاظ الطفل، وغسل وتعقيم الخضار والفاكهة، وطهي الطعام جيداً، وغلي الحليب وتعقيمه وتعقيم المياه التي تستعمل في تحضير قنينة الحليب للطفل في حال الرضاعة الاصطناعية وتعقيم المياه التي تستعمل في تحضير مكعبات الثلج أو تصنيع البوظة.
• بالنسبة إلى الأطفال الرضع ينبغي وقف التغذية بالحليب كخطوة أولى، واستبداله بمحلول المصل الفموي (الذي يحتوي على الملح والبوتاس وكربونات الصودا والسكر، وهو محضر على شكل مسحوق يذوب بالماء المعقم وسهل التناول من قبل الأطفال، ويعطى بكميات قليلة يحددها الطبيب) ما يسمح بالحد من حالات التجفاف.
• عدم التسرع بإعطاء الطفل مضادات الإسهال، وهي عقاقير لم يعد من المقبول استعمالها، لما لها من مضار بحيث تمنع طرح الجرثومة خارج الأمعاء وتبقيها داخل الجسم.
• من المهم الامتناع عن المداواة الذاتية بعدم الإسراع بإعطاء الطفل المضادات الحيوية، وترك الأمر للطبيب وحده أن يقرر الوصفة الطبية المناسبة لكل حالة مرضية.
• الانتباه إلى طريقة خفض الحرارة المرتفعة بالعقاقير المحلولة وليس بالتحاميل، نظراً لصعوبة استعمالها وغياب فعاليتها في حالات الإسهال، لأن عدم تخفيض الحرارة المرتفعة يؤدي في حد ذاته إلى خسارة المياه من جسم الطفل، ما يسرع حصول الجفاف ويزيد من إمكانية حصول التشنجات العصبية (هزة الحائط).
• من المهم التذكير دائماً بوجوب متابعة لقاحات الأطفال عموماً ودورياً، مع متابعة الجرعات التحصينية (التذكير)، منها ما له علاقة بالإسهال البكتيري الحاد (كلقاح التيفوئيد مثلاً) ومنها ما يحمي الطفل من التقاط جراثيم أخرى (نذكر هنا بأهمية اللقاح ضد فيروس الروتا) وهو مصاب بالتهاب حاد في الأمعاء، ما يمكن جهازه المناعي من الدفاع بطريقة أفضل وأقوى في حال حصوله على جميع اللقاحات التي يوصى بها من قبل مختلف المنظمات الصحية وجمعيات طب الأطفال في العالم.