كيف ينظر المجتمع للمصابين بالصرع؟
د. فيصل العتيبي *
الصرع يعتبر من الأضطرابات العصبية التي تم تدوينها عبر التاريخ، حيث تم شرحها في مدونات ابقراط الطبية قبل آلاف السنين، وبمر العصور تعددت الطرق والمحاولات لعلاج الصرع في مختلف البلدان، ومحاولات العلاج كانت مبنية على مدى فهم مختلف الشعوب لأسباب الصرع، والتي كثيرا ما تبنى على الاعتقادات السائدة، ولا يزال الكثير من أفراد المجتمع ينظرون لمريض الصرع نظرة تمييز ووصم اجتماعي قد تصل الى حد الرفض، ومع تطور الوعي الاجتماعي وفهم هذا الداء أصبح هناك تقبل لمريض الصرع، ففي بريطانيا كان هنك قانون يمنع زواج المصابين بالصرع وكان ساريا حتى تم الغاؤه عام 1970، وفي بلدان أخرى يعتبر الصرع من موانع الزواج وكذلك ابطال الزواج.
في المملكة العربية السعودية تم عمل بعض الدراسات لمعرفة كيف ينظر المجتمع السعودي لداء الصرع ومريض الصرع، وأثبتت الدراسات أن هناك الآلاف من المصابين بالصرع فنسبة الإصابة في السعودية تقارب ستة مصابين لكل ألف شخص، وفي إستبيان ميداني لمعرفة مدى وعي شريحة من المجتمع مكونة من 7078 شخصا في مدينة الرياض، وجد أن 76% يمانعون زواج أبنائهم من انسان مصاب بالصرع، وعندما تمت مقارنة النتيجة مع نتائج دراسات مشابهة في دول مختلفة، وجد أن هذه النسبة متقاربة مع النسب الموجودة في الكويت والإمارات وهذا بسبب التقارب في ثقافات المجتمع الخليجي، وعندما تمت المقارنة مع دول آسيوية مثل الصين وجد أن 87% من الصينيين لا يقبلون الزواج من مصاب بالصرع وهي النسبة الأعلى عالميا حسب الدراسات المنشورة، وعندما ننتقل الى أمريكا فيوجد فقط 18% من الأمريكيين لا يقبلون الزواج من الشخص المصاب، وهذا الاختلاف الكبير قد يكون سببه مدى معرفة المجتمع بالصرع والمفهوم الدارج داخل المجتمعات عبر التاريخ، فهناك من يعتبر أن الصرع مرض غير عضوي كمس من الجن أو بأسباب السحر وغيره.
وفي دراسة استبيانية أخرى تستهدف شريحة من المجتمع السعودي والتي عملت على 400 شخص تقريبا في جدة، وهذة الدراسة استهدفت الحاصلين على الشهادة الجامعية من المعلمين وطلاب الجامعات، وكان السؤال الرئيسي هو مدى معرفة هذه الشريحة بأسباب الصرع، ووجد أن 43% يعتبرون أن الصرع مرضا نفسيا وليس عضويا، حيث يعتبر 40% من المعلمين و50% من طلاب الجامعات أن السبب الرئيسي هو مس من الجن، ومع أن هذة الشريحة في هذه الدراسة تعتبر صغيرة إلا أن هذه النسبة تعتبر عالية جداً في شريحة وصلت إلى درجة جيدة من التعليم الأكاديمي، وهذا قد يدل على أن ثقافة المجتمع قد تكون أكثر تأثيرا من مناهج التعليم، والملخص من هذه الدراسة أننا نحتاج إلى حملات توعوية مستمرة للتعريف بداء الصرع، أما بالنسبة للاعتقاد أن الجن هو السبب الرئيسي فهو سبب يتناقله الناس على مر العصور وفي مختلف المجتمعات والديانات، فمنذ ماقبل الميلاد إلى العصر الحديث كانت هناك اعتقادات أن الصرع يحدث بأسباب أرواح شريرة أو بتأثيرالجن وعليه يجب إخراجها من داخل الأنسان، وفي العصر الحديث ثبت أن الصرع له أسبابه العضوية، قد تكون عوامل جينية أو تشوهات الدماغ الخلقية أو أورام الدماغ وغيره من الأسباب.
الصرع هو اضطراب الدماغ المزمن والذي يحدث على شكل نوبات متكررة بسبب اختلال شحنات كهربائية داخل الخلايا العصبية في الدماغ. وتختلف النوبات حسب نوع الصرع فهناك الصرع الجزئي والصرع العام مثلا وتتراوح نوبات الصرع من حالات سهو وفقط الأرتباط بالمحيط حول الشخص الى رجات وتقلصات عضلية تصيب الجسم كاملا مع فقد للوعي. وقد يصاحب نوبة الصرع كلمات يرددها الإنسان أو حركات متكررة خلال فترة نوبة الصرع. وفي بعض أنواع الصرع يحدث أعراض في بدلية النوبة مثل الشعور بالخوف والضيق التنفس وقد يرى الإنسان أماكن أو أشياء معينة امامة ليست حقيقية. وفي حالات عديدة يحدث الصرع بدون مسبب ثانوي وهو الصرع الذي ينشأ لعدم انتظام شحنات الدماغ الكهربائية. ويتم معرفة الأسباب في حالات عديدة مثل أورام الدماغ، التهاب الداغ أو السحايا، تشوهات الدماغ الخلقية، مضاعفات الحمل والولادة مثل نقص الأكسجين، والعامل الوراثي حيث قد يوجد الصرع في أفراد العائلة الواحدة.
هناك حالة التشنج الواحدة والتي قد تحدث ل 10% من الناس في العالم خلال فترة حياتهم وهذا لا يسمى صرع وإنما تشنج وله اسبابه المختلفة. وعنما تتكرر حالات التشنج فعندها يسمى بالصرع.
يتم التشخيص عن طريق التاريخ المرضي فهو مهم جدا في استقصاء كل المعلومات الدالة عن الصرع. وفي وجود التقنية الحديثة مثل الهواتف المحمولة الذكية أصبح بعض أفراد المجتمع يصورون نوبات الصرع التي تحدث للمصاب في المنزل مثلا ويعرضونها على الطبيب المعالج فهذا يختصر للطبيب بعض المعلومات المهمة. وبعد ذلك الفحص الأكلينيكي ثم الانتقال الى الفحوصات المخبرية وتخطيط الدماغ الكهربائي وعمل الأشعة المغناطيسية للدماغ وهناك انواع أخرى من فحوصات الأشعة التي تساعد في تحديد مكان البؤرة الصرعية. وفي حالات الصرع المستعصي للأدوية يتم تنويم المريض في المستشفى في وحدة خاصة تسمى وحدة مراقبة الصرع التي تحتوي على تخطيط كهربائي مستمر مع مراقبة المصاب بكامرات خاصة لتحديد نوع الصرع ومكان البؤرة الصرعية داخل الدماغ. في بعض الحالات يتم تركيب شرائح تخطيط للدماغ عن طريق إجراء جراحي لمعرفة مكان البؤرة الصرعية قبل ازالتها جراحيا.
وعموما علاج الصرع يتم بالأدوية والتي تتحكم بالصرع في 70% من الحالات، وهناك العلاج بالغذاء المحتوي على نسبة معينة من الدهنيات وهذا النوع من الغذاء قد يساعد في تقليل نوبات الصرع عند الأطفال اذا لم تساعد الأدوية في التحكم الجيد بالصرع.
وفي حالة عدم الاستجابة للأدوية يلجأ الفريق المعالج الى التدخل الجراحي لإزالة البؤرة الصرعية وفي حالة وجود اعتلال جهة كاملة من الدماغ أي وجود اعتلال أحد فصي الدماغ فيقتضي الأمر الى عملية الفصل لإنهاء أو تقليل حالات الصرع، وفي حالة الصرع العام يتم العلاج بالتحفيز الكهربائي مثل تركيب جهاز تحفيز العصب الحائر أو العاشر.
الصرع واعتقادات الناس
د. صلاح باز *
التشنج طبياً هو حالة اهتزاز حركي عنيف يعبر فيه الجسد عن الإعياء لعارض صحي، ولكن عند حدوث الحالة من دون محفز، فهو دليل على تشخيص الصرع المزمن الذي ينبعث من خلايا لحاء الدماغ.
الصرع له صور متعددة استناداً على موقع البؤرة الصرعية (النقطة التي ينشأ منها الصرع) ووظيفتها، وهذا ما يجعل التشخيص أكثر صعوبة، فهناك نوبات جزئية لا يصاحبها تغير في الإدراك، بينما هناك نوبات مركبة يغيب فيها الإنسان عن الوعي وأخرى عامة وهذه الصورة الشائعة المطبوعة في أذهان الناس.
ونظرا لتعدد صور الصرع وقلة معرفة الناس بهذه المشكلة فقد ترك الباب مفتوحا للكثيرين بأن يقوموا بالتفسير الخاطئ لما يحدث، بل ووصل الأمر بالبعض إلى الالتباس بين هذه الحالة ومفاهيم عقدية مثل العين والسحر ومس الجن، وهذه الالتباسات مرت على حضارات وأديان كثيرة مما خلق وصمة للمصابين انعكست سلباً على حياتهم وعلى علاجهم، ولكن العلم أدى إلى التقدم المعرفي والإعلامي اللذين ساهما كثيراً في تغيير هذه الاعتقادات عند الكثير من الناس، مما ساعد كل من ابتلاه الله بهذه الحالة في مواصلة حياتهم بشكل طبيعي أسوة بكثير من المصابين الذين غيروا تاريخ البشرية رغم إصابتهم بهذه المعضلة.
الصرع زيادة شحنات يعالج بالكهرباء!
قسم العلوم العصبية
الصرع اختلال في كهربائية الدماغ ويمكن أن يعالج بالشحنات الكهربائية، قد يكون هناك تناقض في معنى الجملة السابقة فكيف نعالج شحنات كهربائية زائدة في الدماغ بشحنات كهربائية خارجية، وهذه طريقة علاجية للصرع عرفت قديماً وقد استخدم الطبيب المسلم ابن سينا سمك التوربيدو الذي يطلق صعقات كهربائية قد تصل إلى 200 فولت حيث كان يضعه على رأس الشخص المصاب بالصرع ولاحظ وجود فائدة من هذه الطريقة العلاجية التي قد تكون غريبة من حيث المبدأ، وتكمن الميكانيكية العلاجية في أن الشحنات الموجودة داخل الدماغ هي مختلفة عن الشحنات الكهربائية الأخرى وقد لاحظ الطبيب الكندي بنفيلد الذي عمل العديد من عمليات تخطيط الدماغ للمصابين بمرضى الصرع في منتصف القرن الماضي لاحظ أن تنبيه قشرة الدماغ بالكهرباء تبطل شحنات الدماغ الصرعية، وبعد ذلك بدأ العلاج بالتنبيه الكهربائي يستخدم لعلاج الصرع، وهناك أنواع من أجهزة التحفيز الكهربائي التي قد تستهدف الأعصاب الخارجية أو عمق الدماغ أو قشرة الدماغ.
فهناك الكثير من مرضى الصرع من لم يستفيدوا من العلاج الدوائي ولا يمكن علاجهم بالتدخل الجراحي لإزالة البؤرة الصرعية وذلك لوجود بؤر صرعية متعددة في الدماغ لا يمكن التعامل معها جراحيا، وإضافة لذلك توجد بعض البؤرات الصرعية في أماكن تتحكم في وظائف عصبية حساسة مثل مراكز الحركة ومراكز التخاطب حيث يصعب إزالة البؤرة الصرعية جراحيا، في هذه الحالات يمكن اللجوء إلى طريقة علاجية جديدة لعلاج الصرع من خلال التنبيه الكهربائي للدماغ والأعصاب .
وهناك استخدامات كثيرة للتحفيز الكهربائي لعلاج أمراض عصبية مختلفة مثل مرض الرعاش وغيرها، وفي أواخر التسعينيات تم اعتماد هذه الطريقة العلاجية لتخفيف الصرع في الولايات المتحدة الأمريكية، هناك أنواع متعددة من أجهزة وطرق التنبيه الكهربائي والمستخدمة حاليا في دول كثيرة بما فيها السعودية.
ويأتي ترتيب العصب الحائر (المبهم) العاشر من بين أثني عشر عصبا رئيسيا وهو أحد أعصاب الدماغ الرئيسية، ويرتبط العصب الحائر بأعضاء كثيرة من الجسم مثل القلب والجهاز الهضمي وغيرها، وقد اثبتت التجارب على الحيوانات أن تحفيز هذا العصب كهربائيا يؤثر على أجزاء كثيرة من الدماغ بما في ذلك قشرة الدماغ وكهربائيته، وقد وجد أن تحفيز العصب يقلل الشحنات الكهربائية الصرعية وبذلك يقلل عدد نوبات الصرع وحدتها.
ويتكون جهاز تحفيز العصب الحائر من جزئين، الجزء الأول هو القطب الذي يوضع حول العصب الحائر في الرقبة في الجهة اليسرى يلتف حول العصب ويرتبط بسلك يمتد تحت الجلد إلى البطارية التي تزرع في منطقة تحت عظم الترقوة، وتتم زراعة الجهاز تحت التخدير العام ويستغرق وقت العملية حوالي الساعة، ويتم تشغيل الجهاز بعد حوالى اسبوعين من زرعه بعد إلتئام الجروح، حيث تتم برمجة الجهاز بجهاز برمجة خارجي، وبعد تشغيل الجهاز قد يشعر المريض بكحة مصاحبة لبداية البرمجة أو تغير بسيط في الصوت حيث تنتهي بعد وقت قصير.
وتساعد هذه الطريقة من العلاج على تخفيف عدد نوبات الصرع وحدتها وقد يقل عدد النوبات إلى أكثر من ٥٠٪ وفي بعض الحالات تقل بنسبة ٩٠٪، وإضافة لذلك قد يحسن هذا التحفيز من مزاج المريض حيث إن هذه الطريقة قد أستخدمت في علاج الاكتئاب، والجديد في هذا النوع من التحفيز الكهربائي هو استخدام تقنية جديدة تتمثل في القياس المستمر لنبضات القلب عن طريق حساس متطور موجود داخل الجهاز وفي حالة بداية النوبة الصرعية يقوم الجهاز بإرسال شحنات كهربائية تقوم بمنع حصول النوبة الكاملة، وهذا النوع من العلاج مستخدم في دول قليلة حتى الآن وهو متوفر بالسعودية، وهناك أنواع أخرى من التحفيز الكهربائي للدماغ مثل التحفيز العميق وتحفيز أعصاب طرفية أخرى كتحفيز العصب الخامس وكل هذه الطرق تستخدم لتخفيف حدة نوبات الصرع.
الإبداع والصرع
* قسم العلوم العصبية
يعتقد بعض الناس أن هناك علاقة بين الصرع وبين التخلف العقلي، وقد ثبت علميا أن الصرع بحد ذاته لا يسبب التخلف العقلي، ولكن إذا كان هناك تشوهات بالدماغ أو اعتلالات ناتجة عن نقص الأوكسجين وغيره فهذا يؤدي إلى عطب كبير في الدماغ مما ينتج عنه تخلف عقلي قد يصاحبه الصرع، وهذ الأمر الذي دفع بعض الناس للاعتقاد بأن الصرع مصاحب للتخلف العقلي وهو اعتقاد خاطئ. ومما أثبته التاريخ أن عظماء المخترعين والعلماء وبعض الشخصيات الهامة والتي وضعت بصمات كبيرة على وجه تاريخ البشرية جمعاء هم من المصابين بالصرع مثل اسحق نيوتن وفان غوخ ونابليون بونابارت، وهناك الكثير في الوقت الحاضر من المصابين بالصرع هم من حملة الشهادات العليا وأصحاب جهود علمية مميزة.
والصرع هو مجرد نوبات عابرة تمر وتختفي ويمكن اعتبارها مثل الفواصل الصغيرة في الحياة مما أعطى المصابين القدرة على الإنتاج والإبداع في شتى ميادين الحياة، ولكن ومما يؤسف له أن نظرة المجتمع للمصاب بالصرع لا ترى هذه الأبعاد المضيئة في حالته، وتبقى تحافظ على التقليل من شأن المصاب بالصرع وربما وصمه اجتماعياً، وهو أمر خاطيء وغير لائق إنسانياً.
ويتكون المخلدى للإنسان من فصين هما، الفص الأيسر ويختص عادة بالعمليات المنطقية واللغوية فيتعامل مع الكلمات، الأرقام، وتحليل الأمور الحياتية والعقلية؛ بينما يختص الفص الأيمن بالعمليات النظرية أو البصرية وتحديد الاتجاهات والأبعاد والتحليل العاطفي، وهناك أجزاء من الدماغ تعمل على استقبال المعلومات وحفظها في ذاكرة الإنسان وهي موجودة في الفص الصدغي في كلتا الجهتين من المخ، وعند إصابة هذه الأجزاء الأخيرة ببؤرة صرعية (وهي نقطة منشأ الصرع) قد يحدث في هذه الحالات اختلال في عملية الذاكرة وعادة ما تكون مؤقتة وهو أمر قد يؤثر إذا استمر لمدى فترات زمنية طويلة إذا لم يتم علاجه، وعندما ينشأ الصرع في أماكن أخرى من الدماغ فيكون تأثير ذلك على الذاكرة قليل، ولتوضيح هذه النقطة فإن تأثير الصرع يكون قليلاً إلا إذا أصاب الفص الصدغي بشكل مزمن وبدون علاج، أما في حالة علاجه فإن احتمالية تأثير الصرع تكون قليلة، وبناءً على ذلك يمكننا القول إن الصرع لاعلاقة له بالتخلف العقلي كما أسلفنا، ولكن هناك حالات صرع ترتبط بالتخلف العقلي لأن السبب هو وجود عطب كبير بالدماغ بسبب أمراض مختلفة، وهو الأمر الذي سبق وأشرنا إليه، وهذه الأمراض كما أسلفنا مثل تشوهات خلقية بالدماغ كالتهاب السحايا عند الأطفال ومشاكل الحمل والولادة مثل نزيف الدماغ ونقص الأوكسجين عن الدماغ وهذه جميعها تسبب التخلف العقلي وربما الصرع في آن واحد.
إذاً فإننا يمكننا القول أن ما يعتقده بعض الناس بوجود علاقة بين الصرع والتخلف العقلي، وأن المصاب بالصرع هو حتما متخلف عقلياً إنما هو اعتقاد خاطئ ولا يستند إلى أي حقيقة علمية، بل إن الحقيقة فيما أثبته العلم والتاريخ من دور لعظماء على مر التاريخ كانوا مصابين بالصرع.