د. شريفة بنت محمد العبودي
كلما بحثت أكثر في فوائد الأطعمة المخمّرة ومكانتها لدى الثقافات القديمة يزيد عجبي لتخلي الناس عنها اليوم. في الماضي كانت لدى كافة الشعوب أطعمة مخمّرة لا يكاد يخلو منها بيت، لأن التخمير في ظاهره (وأقول في ظاهره لأنني لم أجد ما يثبت أن الناس قديما كانوا يخمّرون بعض أطعمتهم طلباً للفوائد من التخمير، أو إدراكاً منهم لتلك الفوائد) كان أحد طرق حفظ الأطعمة.
أما اليوم فقد تخلّى أغلب الناس عن طرقهم التقليدية في التخمير وذلك لتوفر وسائل تجميد وتبريد تعمل بالكهرباء لحفظ الأطعمة. وأجيال اليوم لا تكاد تتصور الحياة بدون تلك الوسائل! ولكن تلك كانت الحال، وتخمير الأطعمة كانت بعض طرق التأقلم مع المتاح.
والتجميد والتبريد في ظاهرهما (مرّة أخرى) وسيلتان مناسبتان لحفظ الأطعمة، فهما، من خلال التحكم بدرجات الحرارة، وسيلتا إبطاء لعمليات تخمّر الأطعمة. أي يجعلان الأطعمة تحافظ على كونها طازجة لفترات طويلة. ويبطئان أو يكادان يوقفان عمليات نمو الأحياء الدقيقة وتكاثرها. كما يبطئان او يوقفان العمليات الإنظيمية (الإنزيمية) التي توفر الغذاء لتلك الأحياء الدقيقة. ولكن تأثيراتهما فيزيائية لا كيميائية، أي بعد فترة قصيرة من إخراج الطعام من المجمّد أو البراد يعود لطبيعته ويتطرق إليه الفساد.
أما في الماضي، قبل عصر الكهرباء، كان التخمير يتسبب في إحداث تغييرات كيميائية للأطعمة فلا تعود أبدا لطبيعتها السابقة فهو يطيل فترات بقائها مناسبة للاستهلاك عن طريق خلق البيئة المناسبة لنمو أحياء دقيقة نافعة تسيطر على الطعام ولا تسمح بنمو الأحياء الدقيقة الضارة التي تسبب تعفن الطعام. وسبحان الله تحمي الأحياء الدقيقة النافعة نفسها عن طريق إنتاج بروتينات تعمل على حماية الأحياء الدقيقة النافعة من غزو الأحياء الدقيقة الضارة. وبالإضافة إلى ذلك تقوم عمليات نواتج أيض الأحياء الدقيقة النافعة من حوامض وثاني أكسيد الكربون وغيرها بعمليات تثبيط للنشاط الإنظيمي ولنمو الأحياء الدقيقة الضارّة. وبذلك تصبح الأطعمة مقاوِمة للتعفن ولنمو السموم.
واستمرار الأطعمة المخمّرة صالحة للأكل يختلف من طعام لآخر، ففول الصويا المخمّر المعروف في شرق آسيا بالتمبة، والذي لا تستغرق عملية تخميره اليوم أو اليومين، يفسد اذا لم يستهلك بعد أيام قليلة من تخميره إذا لم يوضع في البراد، ولكنه يبقى صالحاً للأكل لأشهر إذا تم تجميده. أما الساوركراوت (الملفوف المخمّر) فيستغرق أسابيع ليتم تخميره، كما يستمر صالحا للأكل لمدة طويلة اذا تم حفظه في مكان بارد وجاف.